قصة مفترق احمر
التاريخ؟
“الجزء الثاني والأخير”
شهقت أول ما فتحت عيني، بصيت لأمين المكتبة اللي لسه قاعد على الكرسي وقلتله:
-إنتي إزاي متحركتش، إزاي ما تحاولش تنقذني؟
-عشان أنتي مفيكيش حاجة!
-أنا اتضرب عليا رصاص!
-بجد؟ طب إزاي لسه عايشة وفين الرصاص ده، فين أثره في جسمك؟؟
بصيت على جسمي، مفيش أثر للطلقات والجندي الألباني مش موجود، والباب زي ما هو متكسرش، الحاجة الوحيدة اللي لسه موجودة هي الصداع الرهيب.
-متهيألي أنتي دلوقتي أدركتي إننا لازم نكمل الحكاية.
-عشان أنت فتحت بوابة لعوالم تانية لما بدأت تحكي، والبوابة مش هتتقفل غير لما الحكاية تخلص، مش كده؟
-حاجة زي كده!
-وفي حاجة تانية أنت مخبيها..
-يا خبر بفلوس…
عملت مجهود عشان أقدر أقوم من غير ما أفقد الاتزان ، مشيت في خطوط معووجة ، لحد ما وصلت للكرسي بتاعي وقعدت.
-الجنود شافوا “ميلاء” و”آصف” و”دياب”؟
-لأ، كانوا على بعد خطوات منهم، المفروض كانوا يشوفوهم بس هما كانوا مشغولين بدبح الناس اللي حواليهم…وده إدى وقت ليهم عشان يهربوا، لحظات كانوا لازم يستغلوها قبل ما ييجي عليهم الدور، أول ما خرجوا من المحل، وقبل ما ينطلقوا حاجة وقفت “آصف”، واحد شد جلابيته، راجل ممدد عالأرض، جنبه وبطنه بينزفوا، ثقوب كتير من الرصاص، جسمه بيتصفى، كان بيستنجد بيه، “آصف” وقف، اتشل في مكانه كأنه بيتفرج على لوحة فنية، مش مشهد حقيقي، وده كان أقصى حاجة قدر يعملها، يبقى متفرج صامت، لحد ما “ميلاء” شدته من غير كلام، نبهته عشان يفوق، لازم يسيبه، الراجل ده زي اللي بيغرق و هيغرق اللي يحاول ينشله من الغرق ، “آصف” مد إيده وزق الراجل… وبعدها جريوا بأقصى سرعة لحد أول مفترق، دخلوا شارع جانبي…سابوا كل حاجة، كل تاريخهم، مصدر رزقهم، ذكرياتهم وهويتهم، سابوا كل ده عشان ينجوا بحياتهم، دلوقتي أو بعد شوية، المحل هيتنهب، أو هيتكسر أو الاتنين، كده كده المحل انتهى، المرحلة دي انتهت، من هنا وجاي هيبدأ التيه….
قصة مفترق احمر
هدفهم كان البعد، على قد ما يقدروا لازم يبعدوا عن الأحياء القريبة من القلعة، يدوبوا في الناس اللي بره، يخرجوا من نطاق الهستيريا، وزي أمواج التسونامي، ممكن تلمحها من بعيد، ممكن تتحرك بسرعة وتسبقها، بس مش هتقدر بكل حال من الأحوال تهرب منها، عشان سرعتها أكبر بكتير منك ومن إمكانياتك ، ومش مجرد هتلحقك، دي هتحاوطك من كل جهة وهتبلعك!
صوت الصرخات ما بقاش بعيد، عمال يزحف ويزحف، المدابح وسعت وقربت منهم، كان لازم يلاقوا مخبأ، الجري والهروب مبقوش كفاية…دخلوا جوه بيت غريب، أهله مش موجودين، صالة وأوض وباب صغير لمخزن، هو ده المكان المقصود، أول ما فتحوا الباب لقوا راجل جوه، صاحب البيت، فكر زيهم، اختار المكان ده عشان يستخبى فيه…التلاتة دخلوا من غير استئذان، المخزن داق عليهم وبالعافية قدروا يقفلوا الباب…
“خطوات، فجأة سمعت خطوات جوه المكتبة، ما بين الممرات، مش شخص واحد، دول كذه حد، واحد فيهم بدأ يصفر، نغمة عصفور كناري، المفروض تكون مريحة، بس دبت فيا الخوف، عشان في الحقيقة كانت نغمة الجلاد، شايلة معاها ريحة الموت…
لقيت نفسي بقول:
-وصلوا، الجنود هنا!
أمين المكتبة إبتسم ، هز راسه بيأكد على كلامي ورد:
-وصلوا……
سكت شوية وكمل:
-“آصف” رفع راسه، انتبه لقرب الجنود، مش عشان سمعهم، خطواتهم لسه مكانتش مسموعة، بس حد نبهه، الحكاية المرة دي اختلفت في تفصيلة صغير عن المرة اللي فاتت، المرة دي حد نبهه لقرب الجنود…
-المرة دي؟ قصدك ايه؟
-لوحدك هتفهمي، أنتي بدأتي فعلًا تفهمي، الحقيقة بتنساب واحدة واحدة لحد ما الصورة تكمل، قطع بتتجمع، وأنتي قادرة تجمعيها…..”آصف” سرح، بص في ناحية معينة وقال: “في جنود جايين”، صاحب البيت رد “مش سامع حاجة”…وأمه أكدت “ولا أنا”….
بعديها بثواني سمعوا صوت خطوات، وراها خطوات، زحمة أصوات، الجنود وصلوا قدام البيت … أعلى صوت في البيت كان صوت أنفاسهم السريعة، لحد ما صرخة كسرت حلقة السكوت…صاحب البيت قجأة زعق بعلو صوته : “هنا…هنا، في مماليك هنا، خونة مستخبيين ف بيتي، هنا”… وقف ورا “ميلاء” ولف دراعه حوالين رقبتها….
“حسيت نفسي بيتكتم، رقبتي، وجع رهيب، زي ما يكون…دراع حد ملفوف حواليها! قمت مذعورة، حركتي وقعت الكرسي…أمين المكتبة قال:
-اتنفسي…اتنفسي، اهربي من قبضته..
قصة مفترق احمر
“غمضت عيني، تخيلت نفسي بشيل إيده من عليا ، مبقاش في تقل، وقدرت أتنفس من تاني…بهدوء رجعت، عدلت الكرسي وقعدت عليه…سألته: -إيه اللي حصل بعد كده؟”
– كمل زعيق “هنا…هنا!”…”آصف” همس في ذعر : “أنت بتعمل ايه؟!”…….. الراجل رد: “لو بلغتهم بوجودكم، أكيد هيعتبروني صديق، ولائي ليهم، هسيبوني ف حالي”…. “ميلاء” قالت بصوت مخنوق “غبي!”
خبطة جامدة على راسه، ميعرفش جت منين، الراجل بص وراه لقى “آصف” ماسك شمعدان عليه دمه بعد ما ضربه بيه! الدنيا لفت حواليه، فلت “ميلاء” ووقع عالأرض…
“جايين على هنا، هنعمل إيه؟ سألهم “دياب” بصوت مهزوز…
“ميلاء” لمحت باب خلفي للمخزن، شاورتلهم عليه، فتحوه بسرعة وخرجوا…
صاحب البيت زحف لحد باب المخزن، قام بصعوبة وفتحه، الجنود كانوا دخلوا البيت، مشي وهو بيترنح لحد ما قابلهم في ساحة الضيافة….
“أنا صاحب البيت، في مماليك كانوا مستخبيين عندي، جوه…جوه في المخزن، أنا بدين بالولاء ليكم، أنا منكم”……….”وإحنا مقدرين”
ده كان مباشرة قبل ما الجندي ينحر رقبته بالخنجر اللي معاه…الجنود دخلوا جوه المخزن بس مكانش ليهم أثر، ما فاتش كتير عبال ما أدركوا اللي حصل وشافوا الباب الخلفي للمخزن….
الشمس بدأت تغيب، يوم طويل، طوبل أوي، زي ما يكون دهر بحاله، وبرغم أنه كان سريع ومرعب من وقت ما بدأ، إلا أن غياب الشمس زود جرعة الرعب في قلوبهم ، أصل أي مفترس بيحب الضلمة، بتبقى حليف ليه، على عكس الفريسة اللي بتضعف بشباك الضلمة وفخاخها….
التلاتة بدأوا يتعبوا، هيفضلوا هيهربوا لحد إمتي، وفين تخلص منطقة المعركة؟مفيش بيت هيستقبلهم ولا زقاق هيداريهم ، كله مكشوف، ريحة الدم والعفن فاحت، وده كان عنصر كافي يحبطهم أكتر…لحد ما “دياب” وقف وشاور على اتجاه….
قصة مفترق احمر
“حمام عام”…هو ده الملجأ الوحيد، اللي ممكن يكون آمن…… مبدئيًا مفيش حد من السكان أكيد هيبقى رايق ويدخل يستحمى في الأجواء دي، الناس براه بتستحمى بدمها ، والجنود من المستبعد يفكروا يدخلوه ويفتشوا، في كوم لحم في الأزقة والطرق يكفوا الألبان عشان يمارسوا هواية الصيد ويحققوا أرقام قياسية…
اتجهوا فعلًا للحمام، وقتها الضلمة زحفت، وقبل ما يدخلوا بخطوات “ميلاء” وقفت تبص في السما…
“قاطعته، كنت باصة من شباك المكتبة لما لقيت حاجة لفتت إنتباهي، قلت:
-شافت قمر دموي!
الليل جه وأنا لسه قاعدة في المكتبة ومش فارق معايا، كل اللي فارق معايا هي الحكاية، لازم أعرف آخرها، لازم أعرف حصل لهم إيه، لون الدم صبغ القمر وكنت عارفه أنه نفس القمر اللي كان موجود في سما الليلة دي، القمر اللي “ميلاء” شافته…
أمين المكتبة كمل كلامه:
-“آصف” شدها، كان فاهم بالظبط اللي بيدور في بالها، القمر ده مبيظهرش إلا نادرًا وجت الليلة دي عشان يظهر فيها! كانوا عاملين زي الفار في مصيدة، فاكر نفسه بيهرب، وهو محبوس جوه مسارات هتخلص وبرده هيلاقي نفسه لسه محبوس…
دخلوا وقفلوا على نفسهم، عتمة، مفيش أي مصدر للضوء، مفيش غير النور الضعيف الأحمر بتاع القمر اللي اتسلل من فتحات الإزاز الملون في السقف….
وقت كبير عدى ومفيش ولا كلمة، كل واحد فيهم باصص في الفراغ قدامه، مشاهد اليوم من أوله بتدور قدامه، مفيش حاجة شدت إنتباههم وقطعت الشرود، غير الباب اللي اتفتح وحركة الجندي اللي فتحه!
التلاتة اتحركوا بسرعة، وقفوا في ركن من أركان أوضة المغطس، نسمة باردة فجأة حلت، لزقوا في بعض عشان يتدفوا ويطمنوا بوجود بعض… الجندي قرر يدخل أوضة المغطس… دخل وهو مركز على المغطس وقلع هدومه…. حطهم مع البندقية على حرفه، ونزل جوه الميه….
أي حركة غلط معناها موتهم، أي نفس عالي….
الجندي نزل بجسمه كله في المغطس، الميه غطته، اللون الشفاف اتلون بالأحمر، الدم المتكتل عليه داب جوه الميه….
ولما طلع وقرر أخيرًا يفتح عينيه لمحهم…
في سرعة رهيبة “ميلاء” جريت ناحيته، عايزه تلحقه قبل ما يخرج من المغطس ويشد البندقية، وفي سرعة رهيبة كان قام من مكانه وشد البندقية، طلقة خرجت منها في الوقت اللي “ميلاء” كانت بتمد ايديها الاتنين عشان تغرقه، بأقصى قوة مسكت راسه ونزلتها في الميه، فضل يعافر من تحت…بصت لولادها وصرخت : “يالا”…
قصة مفترق احمر
الاتنين نزلوا ، مدوا أيديهم معاها…. فضل يعافر ويعافر، راجل عفي، هد حيلهم هما التلاتة، لحد ما حركته بدأت تقل ،بطل يقاوم، صوته هدي وجسمه وقف تمامًا عن الحركة… ومع ذلك دراعاتهم فضلت مفرودة، مش راضيين يسيبوه، مش مصدقين أنه فعلًا مات… “آصف” أول واحد ايديه ارتخت وفلت الجثة، بعديه “دياب” و”ميلاء”…
التلاتة ابتسموا لبعض، بس ابتسامة “دياب” ضاقت بعد ما شاف حاجة في الميه، شاور وقال : “إيه ده؟!….”
بركة من الدم وسط الميه، مش بقع الدم الصغيرة اللي كانت على جسم الجندي، لأ ده دم جديد، شلال اتفجر جوه الميه، “ميلاء” بصت تحت ، لمصدر الدم، بطنها! …الطلقة اللي انطلقت من بندقية الجندي قبل ما يغرقوه، “ميلاء” انشغلت بهدفها، أنها تخرج روحه قبل ما يأذيهم، لدرجة إنها ماخدتش بالها الطلقة راحت فين، كانت بتموت وهي مش مدركة، حلاوة روح، حلاوة رغبة في النجاة…
“إمشوا…إمشوا، أكيد سمعوا الطلقة”
الاتنين جادلوها وهما بيبكوا، مكانوش راضيين يسيبوها لحد ما صرخت فيهم: “إهربووووا”
جريوا، مبصوش وراهم، لكن سمعوا جسمها وهو بيقع ويخبط في الميه…
انهي اتجاه؟ يختاروا أنهي اتجاه، أنهي مفترق وأنهي مسار، النجاة فين؟
عدوا جنب زقاق، تخطوه ومشيوا…
“شميت ريحة بشعة… سألت أمين المكتبة: ايه الريحة دي؟…. قمت من الكرسي، مشيت ناحية المصدر، كل أما أقرب الريحة تفوح أكتر، تتركز، بدأت أكح، رفعت إيدي وغطيت مناخيري وبوقي، وصلت لممر من ممرات المكتبة، لقيت جثث كتير متكتلة جنب وفوق بعض… قلت:
-الزقاق ده، عشان كده مرضوش يدخلوا فيه…عشان الجثث اللي ملته.
-مظبوط.
-بالعكس، المفروض يرجعوا ويستخبوا وسط الجثث، الألبان فاكرين أنهم قتلوا الناس كلهم هنا، مش هيرجعوا، مش هييجي ف بالهم أن في أحياء…
أمين المكتبة رد:
-قوليلهم بنفسك!
في نهاية الممر الناحية التانية لمحت ولدين، مراهق وطفل، ماشيين ببطء ، رايحين لممر تاني في المكتية… زعقت:
-إرجعوا، إستخبوا وسط الجثث، إرجعوا!
دي كانت أول مرة أشوف وش أمين المكتبة فرحان كده، ملامحه اتغيرت…. قال:
-بعد ما كانوا اتخطوا الزقاق ومشيوا فجأة ، وقفوا، أصلهم شافوا حد واقف من بعيد، واحدة ست، شكلها غريب، لبسها وهيئتها، “دياب” سأل “آصف”: مين دي…. “آصف” رد: معرفش، بس سمعت اللي قالته؟……..”ايوه، غريبة، برغم إنها بعيدة، بس سمعتها بوضوح بتقول استخبوا وسط الجثث!”……
وفعلًا رجعوا بسرعة، ودخلوا المقبرة الجماعية…
قصة مفترق احمر
بعد ما دخلوا الزقاق بلحظات، ظهر كام جندي في نفس الطريق اللي كانوا فيه، يعني كانوا أكيد شافوهم وقتلوهم لولا إنهم غيروا المسار ودخلوا الزقاق… أهو ده برده أول مرة يحصل…
الأرض كانت مفروشة بالجثث والأشلاء ، التربة مش باينة من تحتيهم، “آصف” و”دياب” فضلوا ماشيين لحد نص الزقاق، وبعدين مددوا، مسكوا إيد بعض وفضلوا ساكتين، غريبة أوي، الراحة والأمان اللي حسوا بيه، عمرهم ما تخيلوا إنهم هيحسوا بالسلام ده والطمأنينة وهما في مقبرة، الموت كان الحارس بتاعهم من الأحياء….
فاتت أكتر من ساعة وهما على وضعهم، وبعدين “آصف” قرر يتحرك، “دياب” كان عنده رأي تاني، قال إنهم المفروض يستنوا شوية كمان، بس “آصف” أصر، كان متأكد أن الجنود كلهم مشيوا من المنطقة دي، خلصوا مهمتهم هنا…
قاموا ومشيوا للمكان اللي دخلوا منه، “آصف” كان عنده حق، مكانش في أثر للجنود، نجيوا من المعركة، من النار اللي التهمت الناس اللي كانوا في محيطها، نار النزاع على السلطان وتخليص الحسابات…
خيوط الفجر اخترقت السما، شعاع نور في بحر عتمة….
قصة مفترق احمر
ابتسامة “آصف” لأخوه كانت مضيئة أكتر من نور شموس كتير متجمعة….
“آصف” كان عنده حق، مكانش في أثر للجنود، على حد علمهم!
سهم الغدر اخترق درع الأمل، مع اتساع ابتسامة “آصف”، “دياب” اتفاجأ بنصل رمح في صدر أخوه، جندي غرز رمح في ضهر “آصف” لحد ما اخترق صدره….
صرخة “دياب” هزت الشوارع… “آصف” شاورله أنه يهرب…
في محاولة بائسة “دياب” جري ، في خطوط مش مستقيمة، شوية يمين شوية شمال…. جندي ظهر قدامه وجندي وراه وجندي جنبه وجندي من الناحية التانية، الموت حاوطه من كل جهة….
“الدموع نزلت من عيني ، غرقت وشي… لقيت نفسي بكمل الحكاية:
-“دياب” وقع، طلقات الغدر صابت جسمه الصغير، بالنسبة لهم مكانش طفل ولا حتى بني آدم، مجرد فريسة، طير في السما أو غزالة ف غابة، عشان الهيستيريا، هما كمان مبقوش بني آدمين، اتحولوا لوحوش، اتصابوا بالوباء، هيستيريا الدم….
قصة مفترق احمر
رد عليا:
-الحكاية خلصت…وهتبتدي من تاني…
ضحكت في وسط ما انا ببكي وقلت:
-الحكاية هتتحكي من تاني…
-أنتي اللي هتحكيها، بالتفاصيل اللي زودتيها، وعلى حسب اللي هتحكيله، يمكن المرة اللي جايه تكون ليهم فرصة أكبر، فرصة للنجاة…التاريخ أصله احتمالات، ممكن نفس الحكاية يكون ليها كذه نسخة مختلفة….
“أول مرة أشوف المشهد واضح كده، ظهرت قدامي “ميلاء”، كانت جثة ممدة على الأرض، في فجوة في بطنها مكان الرصاصة ودمها ناشف، بس مكانتش في المغطس ولا حتى الحمام، كانت….. جوه المحل بتاعها، محل الجلاليب والسراويل، فجأة فتحت عينيها وشهقت، قامت ووقفت في نفس الحته اللي كانت واقفة فيها قبل ما يظهر ولادها ويبلغوها باللي حصل في القلعة…..”آصف” كان عنده فجوة كبيرة في ضهره وصدره ، بس كان واقف ساكت من غير حركة في مكان تاني غير اللي اتقتل فيه، قرب بوابة القلعة، مشي خطوات كأنه إنسان آلي لحد الحتة اللي وقف فيها لما كان مستني ظهور موكب الجنود و”دياب” ظهر في مكان قريب منه، مشي لحد ما بقى جنب أخوه، بقوا في نفس وضعيتهم بالظبط، قبل ما البوابة تتفتح….”دياب” بص لأخوه ، بوشه الأصفر وشفايفه الزرقا وقال له : “دي مش أول نموت فيها صح؟”………”لأ يا “دياب” مش أول مرة!”……..”إيه اللي بيحصل؟”…….”معرفش”…….”إحنا في فجوة زمنية ولا البرزخ؟”………”كل اللي أعرفه أن الحكاية بتتعاد، بنصحى بعد ما نموت، ونتحرك أول ما الحكاية تتحكي من أول وجديد”.,,,,…”طيب بنفتكر؟”……..”لأ، شوية وهننسى كل ده ، أو ما تبدأ الحكاية هنعيشها تاني وهننسى كل اللي حصل”………”ممكن نعيش في نسخة من النسخ، ممكن مرة ننجي؟”…….”ممكن”…
“عرفت أن الوقت جه، مهمة أمين المكتبة خلصت، ووجودي مبقاش ليه مغزى، من نفسي روحت في اتجاه باب المكتبة، فتحته ومشيت….
قصة مفترق احمر
بعد كذه خطوة، بصيت ورايا، كان عندي فضول أشوف باب المكتبة للمرة الأخيرة…بس لقيته إتغير! قدم أوي، بقى دايب والتراب عليه أشبار، والمبنى متهالك، مكانش كده! فضلت باصة ليه، مشلولة مكاني لحد ما جه راجل سألني إذا كنت محتاجة أو بدور على حاجة…. قلتله: المكتبة…رد:
-ياااه، مكتبة “مروان الأمين” ، من وقتها المبنى متسكنش.
-من وقتها؟
-بعد ما مات، من أكتر من 30 سنة، بس انتي ازاي عرفتي بموضوع المكتبة ده؟ دي من عمرك، تقريبا الأمين مات في السنة اللي اتولدتي فيها أو بالكتير لما كان عندك سنة أو اتنين…
سبت الراجل وهو بيكمل كلامه ومشيت ، دماغي اتزحمت بأفكار كتير، مكنتش قادرة أسمع زيادة عن كده، موبايلي رن، كان واحد من صحابي…قعد يزعق ويسألني عن مكاني، بقالي 8 ساعات مختفية! كانوا بيحاولوا يوصلولي مش لاقينني ف أي شارع قريب ولا برد عليهم… وقفت مكاني لحد ما جم عشان ياخدوني ….في وسط عتابهم وزعيقهم قلتلهم:
-عندي حكاية ليكم، لازم تسمعوها….
“بعد ما “آصف” و”دياب” كانوا واقفين وحدهم قدام باب القلعة، أجسامهم باردة، حواليهم أرض خالية والرياح بتضرب في التربة والتراب محاوطهم، الأرض اتزحمت ناس، الجروح في أجسامهم التأمت، وملامحهم اتحركت بعد جمودها، عينيهم لمعت وابتسامتهم اترسمت على وشوشهم، استعدوا لخروج الجنود، مستنيين بفارغ الصبر، واضح أن الناس اللي ورا السور إتلهوا في حفلتهم واستحلوا الضيافة والاستقبال…….”
“تمت”
ياسمين_رحمي